من مواقف سيدنا مسلم عليه السلام
مسلم و ما أدراك ما مسلم؟
بطل من أبطال الهاشميين ذو النسب الشريف والحسب الرفيع، ابن عمّ الإمام الحسين سلام الله عليه وسفيره إلى أهل الكوفة. اختاره الإمام سلام الله عليه سفيراً من قِبَلِه إليهم بعد أن تتابعت كتبهم ورسائلهم – كالسيل – إلى الإمام وهي تحثّه على المسير والقدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم الأمويين وعنفهم وإستهتارهم بالدين فرأى الإمام سلام الله عليه – قبل كل شيء – أن يختار سفيراً له يعرّفه بإتجاهاتهم، وصدق نياتهم، فإن رأى منهم نيّة صادقة، وعزيمة مصممة فيأخذ البيعة منهم، ثم يتوجّه إليهم بعد ذلك، وقد إختار لسفارته ثقته وكبير أهل بيته، والمبرَّز بالفضل فيهم مسلم بن عقيل، وهو من أفذاذ التأريخ، ومن أمهر الساسة، وأكثرهم قابلية على مواجهة الظروف، والصمود أمام الأحداث، وعرض عليه الإمام سلام الله عليه القيام بهذه المهمة. فاستجاب له عن رضى ورغبة، وزوّده برسالة دلّت على سموّ مكانة مسلم سلام الله عليه، ورفعة منزلته.
الحسين سلام الله عليه يعرّف مسلماً
قال الإمام الحسين سلام الله عليه في رسالته التي بعثها مع مسلم بن عقيل إلى أهالي الكوفة ما نصه:
«وقد بعثت لكم أخي وابن عمّي، وثقتي من أهل بيتي...».
إعلم عزيزي القارئ أنّ كلّ ما يصدر من الإمام المعصوم سلام الله عليه من قول وفعل وتقرير هو حجة، فالإمام لا يمدح إعتباطاً ولا يحابي أحداً لكونه قريباً له، أو من ابناء عمومته، بل إن ما يقوله الإمام المعصوم هو مطابق للواقع وعين الحقيقة. فإذا عرفنا ذلك أدركنا عظمة مسلم بن عقيل سلام الله عليه.
من مواقفه المشرفة
ولكي نعرف أكثر عظمة هذا البطل الغيور وشدّة تفانيه وورعه وتحرّجه في الالتزام بتعاليم الإسلام العظيم، ومدى طاعته وإخلاصه في الإقتداء والسير على نهج إمام زمانه مولانا الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، ارتأينا ونحن في ذكرى استشهاده سلام الله عليه أن نسلّط الضوء على موقف من مواقفه المشرفة، وهو عدم فتكه بالملعون عبيد الله بن زياد كما في الرواية التالية:
لما دخل مسلم الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب فبايعه اثنا عشر ألف رجل فلما دخل ابن زياد انتقل من دار سالم إلى دار هانئ في جوف الليل ودخل في أمانه وكان يبايعه الناس حتى بايعه خمسة وعشرون ألف رجل فعزم على الخروج فقال هانئ: لا تعجل. وكان شريك بن الأعور الهمداني قد جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد فمرض فنزل دار هانئ أياماً، ثم قال لمسلم: إن عبيد الله يعودني وإني مطاوله الحديث فاخرج إليه بسيفك فاقتله وعلامتك أن أقول اسقوني ماء، ونهاه هانئ عن ذلك. فلما دخل عبيد الله على شريك وسأله عن وجعه وطال سؤاله ورأى أن أحداً لا يخرج فخشي أن يفوته فأخذ يقول:
ما الانتظار بسلمى أن تحييها | كأس المنية بالتعجيل اسقوها |
فتوهم ابن زياد وخرج.فلما خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف في كفه فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: خصلتان أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره، وأما الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي صلّى الله عليه وآله: أن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن».حقاً ما أعظم هذه الكلمات الثلاث؟! أجل إنها ثلاث كلمات فقط، ولكن الدنيا تزول في يوم ما، وتبقى هذه الكلمات خالدة.
فكما أن الإنسان المقيد بالسلسلة لا يستطيع التصرف بحرية لأن السلسلة تقيده وتمنعه من الحركة فكذلك هو الإسلام يمنع الإنسان المؤمن من الفتك، فإذا فتك فذلك يعني أنه قد تحرر من الإسلام ولم يعد متقيّداً به.ولقد اتخذ مسلم (رضوان الله عليه) الموقف الأمثل المطلوب منه، أي عمل بما تقتضيه السنة منه.
بعد أن نقل العلامة المجلسي (رحمه الله) هذه القصة في البحار قال: لو قتل مسلم في تلك اللحظة ابنَ زياد لاستتب له أمر الكوفة وقوي جانب الحسين سلام الله عليه وربما آل الأمر إلى سقوط يزيد وحكومة بني أمية، وهذا يعني تفويت فرصة عسكرية من أعظم الفرص... ولكن ماذا يعمل مسلم، والإسلام قيد الفتك؟!.صحيح إن مسلماً قد فوّت أكبر فرصة سياسية وذهبية لقلب المعادلة لصالحه وصالح الإمام الحسين سلام الله عليهما مادياً، ولكنها لم تكن الفرصة الذهبية إسلامياً، بل كانت بعيدة عن روح الإسلام؛ فقد نقل مسلم (رضوان الله عليه) حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيه: إن الإسلام قيد الفتك؟!مبادئ الإسلام فوق كل شيء
فالغلبة المادية بالفتك ليس فيها بقاء الإسلام الذي هو فوق تلك الغلبات، إضافة إلى ذلك فإن مسلم بن عقيل كان فذاً من أفذاذ الإسلام في ورعه وتقواه، وتحرجه في الدين، فقد تربى في بيت عمه أمير المؤمنين سلام الله عليه وحمل اتجاهاته الفكرية، واتخذ سيرته المشرقة منهاجاً يسير على أضوائها في حياته، وقد بنى الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه واقع حياته على الحق المحض الذي لا التواء فيه، وتحرج كأعظم ما يكون التحرج في سلوكه فلم يرتكب أي شيء شذ عن هدي الإسلام وواقعه وهو القائل: «قد يرى الحلول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله».
وعلى ضوء هذه السيرة بنى ابن عقيل حياته الفكرية، وتكاد أن تكون هذه السيرة هي المنهاج البارز في سلوك العلويين يقول الدكتور محمد طاهر دروش:
«كان للهاشميين مجال يحيون فيه، ولا يعرفون سواء، فهم منذ جاهليتهم للرياسة الدينية قد طبعوا على ما توحي به من الإيمان والصراحة والصدق والعفة والشرف والفضيلة، والترفع والخلائق المثالية والمزايا الأدبية والشمائل الدينية والآداب النبوية».
إن مسلماً لم يقدم على اغتيال عدوه الماكر لأن الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن، وعلق هبة الدين على هذه الكلمة بقوله: «كلمة كبيرة المغزى، بعيدة المدى فان آل علي من قوة تمسكهم بالحق والصدق نبذوا الغدر والمكر حتى لدى الضرورة، واختاروا النصر الآجل بقوة الحق على النصر العاجل بالخديعة، شنشنة فيهم معروفة عن اسلافهم، وموروثة في أخلاقهم، كأنهم مخلوقون لاقامة حكم العدل والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء، وقد حفظ التأريخ لهم الكراسي في القلوب».
عظمة مسلم بامتثاله للإسلام
إن مهمة مسلم التي عهد بها إليه هي أخذ البيعة من الناس والتعرف على مجريات الأحداث، ولم يعهد إليه بأكثر من ذلك، ولو قام باغتيال الطاغية لخرج عن حدود مسؤولياته.. على أن الحكومة التي جاء ممثلاً لها انما هي حكومة دينية تعني قبل كل شيء بمبادئ الدين والالتزام بتطبيق سننه وأحكامه، وليس من الإسلام في شيء القيام بعملية الاغتيال.
وقد كان أهل البيت سلام الله عليهم يتحرجون كأشد ما يكون التحرج من السلوك في المنعطفات، وكانوا ينعون على الأمويين شذوذ أعمالهم التي لا تتفق مع نواميس الدين، وما قام الحسين سلام الله عليه بنهضته الكبرى ألا لتصحيح الأوضاع الراهنة وأعادة المنهج الإسلامي إلى الناس.. وماذا يقول مسلم للأخيار والمتحرجين في دينهم لو قام بهذه العملية التي لا يقرُّها الدين.
وعلى أي حال فقد استمسك مسلم بفضائل دينه وشرفه من اغتيال ابن زياد، وكان تحت قبضته، وان من أهزل الأقوال وأوهنها القول بأن عدم فتكه به ناشيء عن ضعفه وخوره، فإن هذا أمر لا يمكن أن يصغى إليه فقد أثبت في مواقفه البطولية في الكوفة حينما غدر به أهلها ما لم يشاهد التأريخ له نظيراً في جميع مراحله، فقد صمد أمام ذلك الزحف الهائل من الجيوش فقابلها وحده ولم تظهر عليه أي بادرة من الخوف والوهن، فقد قام بعزم ثابت يحصد الرؤوس ويحطم الجيوش حتى ضجت الكوفة من كثرة من قتل منها، فكيف يتهم بطل هاشم وفخر عدنان بالوهن والضعف؟
وصحيح أن ابن زياد كان من أشرّ الناس، ولكنه لم يأت إلى بيت هاني بصفته محارباً بل جاء بعنوان الزيارة، ولذلك لم يقتله مسلم غيلة، وها هنا تكمن عظمة مسلم بن عقيل سلام الله عليه التي يقف حتى التاريخ إجلالاً لها.
المصادر:
1 . المحاضرة رقم 3 من محاضرات (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق) لسماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي دام ظله.
2 . حياة الإمام الحسين بن علي سلام الله عليه / باقر شريف القرشي / ج 2 .
مسلم بن عقيل...سفير النهضة المظلوم
كتب: الشيخ قاسم الحائري
من أهم وقائع شهر ذي الحجة الحرام شهادة سفير سيد الشهداء المظلوم مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام. وحيث إن لهذا السفير العظيم دوراً مهمّاً في نهضة سيد الشهداء عليه السلام، فضلاً عن قلة تناول الكتّاب والمؤرخين وتعرضهم لدوره الريادي وجدتُ من الجدير أن أسلّط بعض الضوء على دوره الخالد في قضية عاشوراء. وقبل أن نشير إلى دور هذا الشهيد المظلوم في ثورة سيد الشهداء عليه السلام لا بأس أن نذكر شيئاً من مقاماته العظيمة لنعرف لماذا اختاره أبو عبدالله الحسين عليه السلام كسفير وممثّل عنه في الكوفة.
ففي الخبر أن أميرالمؤمنين عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: يا رسول الله، إنك لتحبّ عقيلاً؟
قال صلى الله عليه وآله: إي والله، إني لأحبّه حبّين، حبّاً له، وحبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون، ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى جرت دموعه على صدره، ثم قال: إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي. (أمالي الصدوق، ص111).
فلو لم يردنا في حقّ مسلم سوى هذا الحديث لكفى في رفعة مقامه وعلو مرتبته، فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله يخبر بمصرعه قبل سنين ويبكي لقتله ويشير إلى أن المؤمنين سيبكونه؛ وهذا ينمّ عن مقامه الرفيع.
كما أنّ الملائكة المقربين يصلّون على مسلم، وهذا أيضاً مقام عظيم له، فقد جاء في الخبر المتقدم أنه يبكيه مقربو الملائكة لا عامّتهم، بل إن من خصائص مسلم بن عقيل أن أول من بكاه هو رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومما يدلّ على منزلة مسلم الرفيعة ما كتبه سيد الشهداء في حقّه لمّا بعثه إلى الكوفة؛ قال عليه السلام: وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل. (بحار الأنوار ج44، ص334).
ولا يخفى أن تعيين مسلم كسفير للنهضة الحسينية ينمّ عن مقامه، فضلاً عن إشادة الإمام الحسين عليه السلام بمقامه وتوثيقه لأهل الكوفة، حيث نعته بأنه ثقته من أهل بيته.
ومع هذا كله أثيرت ضدّ مسلم بن عقيل الذي يعتبر من ثقات أهل البيت عليه السلام بعض الشبهات الغامضة التي لا يعلم حقيقتها ولا المراد من طرحها، ومنها:
هل استعفى مسلم من السفارة؟
تداولت بعض الكتب قضية مشكوكة حول مسلم بن عقيل ملخّصها: أنه في أثناء الطريق إلى الكوفة بعث إلى سيد الشهداء عليه السلام يطلب منه أن يعفيه من مهمّة السفارة إلى الكوفة. ففي تأريخ الطبري جاء: فأقبل مسلم حتى أتى المدينة، فصلّى في مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله وودّع من أحبّ من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به، فضّلا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان:
هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء، وقد كادوا أن يموتوا عطشاً. فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى الحسين وذلك بالمضيق من بطن الخبيت:
أما بعد، فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق وضلاّ، واشتدّ علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء، فلم ننجُ إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيّرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه، وبعثت غيري، والسلام.
فكتب إليه سيد الشهداء عليه السلام: أما بعد، فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إلي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن، فامض لوجهك الذي وجّهتك له، والسلام عليك. (تأريخ الطبري ج3، ص278).
مثل هذه القضية المشكوكة حول سفير سيد الشهداء عليه السلام المظلوم تجعلنا نتوقف عندها بتأمل ونحقق في محتواها ملّياً لنعرف كيف سعى أعدء أهل البيت سلام الله عليهم إلى تشويه ثورة أبي الأحرار عليه السلام وكلّ ما يرتبط بها بصلة.
وإذا دققنا في مجموعة أمور يتجلّى لنا كالشمس في رابعة النهار أنها قضية مختلقة صنعتها أيادي مغرضة، وذلك لعدة أسباب:
1. مثل مسلم بن عقيل المعروف بشجاعته كيف يجبن عن الذهاب للكوفة وتحمل السفارة عن ابن عمه وإمام زمانه، فمن الواضح أن من اختلق القصة غير خبير بشجاعة مسلم، ويكفيه أن يراجع كلام محمد بن الأشعث الذي أرسل إلى ابن زياد يطلب منه أن يمدّه بالجيش، فكتب إليه: ألم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كف بطل همام من آل خير الأنام. (نفس المهموم ص111).
بل نقل في بعض كتب المناقب أن مسلم بن عقيل كان مثل الأسد، وكان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت. (المصدر نفسه).
2. كيف يمكن لسيد الشهداء عليه السلام أن يرسل شخصاً يجبن عن الشدة كسفير عنه ويوثّقه لأهل الكوفة ويعبّر عنه بأنه ثقته من أهل بيته؟ علماً أن المؤرخين يؤكدون أن مهمة مسلم كانت خطيرة جداً، وكان من المحتمل جدّاً أن يتعرض للخديعة ويجابه أزلام الكوفة وجلاوزتهم.
3. هل يُتوقّع من أبي الأحرار عليه السلام الذي وطّد نفسه من البداية على الشهادة فكان يشير على أصحابه وأهل بيته بالرجوع لأن القوم لا يطلبون سواه، أن يجبر مسلم بن عقيل على قبول السفارة؟
4. ألم يكن أبو الأحرار عليه السلام يعرف بشجاعة مسلم حتى يصفه بالجبن والحال أنه قاتل معه في صفين وكان معه على ميمنة الجيش؟
5. كما يتضح من وداع سيد الشهداء عليه السلام مع مسلم أنه أخبره بشهادته حيث قال له: إني موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء. ثم تعانقا وبكيا، فكيف يجبن مسلم عن السفارة فيما بعد ولماذا؟
6. هل من الأدب الحسيني أن يخاطب ابن عمه بمثل هذا الخطاب ويصفه بالجبن لمجرد أنه استعفى من السفارة؟
مجمل هذه الأمور تجعلنا نردّ هذه القضية ونطمئن إلى أن أيادي التحريف تطاولت إليها ونالت منها لتمسّ من النهضة الحسينية التي دكّت حصون الدكتاتورية وقلعت كيانهم وكشفت أقنعة الضلال للأجيال المختلفة.
دور مسلم في فشل النهضة؟!
أما الشبهة الثانية التي أثيرت ضد سفير الإمام الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل هي ما أثير حول موقفه تجاه ابن زياد في بيت هاني بن عروة لما جاء ابن زياد لعيادة شريك بن الأعور واتفق شريك مع مسلم أن يختبئ ثم يغدر به ويخلّص الأمة من شره فتسقط الكوفة بيد مسلم ويستولي على زمام الأمور، لكن مسلماً لم يقتل ابن زياد وبقي شريك يدعوه بأبياته لقتله، حتى أحسّ ابن زياد بالخطر وخرج وفاتهم، ثم قتل مسلم وفشلت النهضة الحسينية وفق المقاييس الظاهرية لأن مسلماً بعث إلى سيد الشهداء عليه السلام يدعوه بالقدوم.
مثل هذه الشبهة تنمّ عن عدم معرفة مقام مسلم بن عقيل أولاً وعدم الدقّة في مطالعة هذه الواقعة التأريخية ثانياً. ولإثبات كلّ من المدَّعيين نقول:
أولاً: ليس من الصحيح أن نلاحظ فعل مسلم بن عقيل ونحمّله كل المسؤولية الضخمة من غير ملاحظة كلّ الدواعي التي حدته إلى عدم الفتك بابن زياد، وكما يقولون في الأصول: إن الفعل أخرس ليس له ظهور إلا إذا اقترن بقرائن.
ولكي نفهم المراد من فعل سفير الإمام الحسين عليه السلام لا بد أن ندقق في جزئيات الحادثة ونلاحظ الأسباب والدواعي التي حدته لاتخاذ موقف كهذا، ومنها:
مبغوضية الفتك: لا يخفى أن الفتك مبغوض في الإسلام إن لم نقل بحرمته حتى لمثل ابن زياد وأهل البدع وغيرهم، وقد دلّت على ذلك أخبار ومنها: أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله قال: إن الإيمان قيد الفتك. (إعلام الورى ص225).
وعن أبي صباح الكناني قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: إن لنا جاراً من همدان يقال له الجعد بن عبدالله، وهو يجلس إلينا فيذكر علياً أمير المؤمنين عليه السلام وفضله فيقع فيه، أفتأذن لي فيه؟
فقال لي: يا أبا صالح، أفكنت فاعلاً؟
فقلت: إي والله، لئن أذنت لي فيه لأرصدنّه، فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله، قال:
فقال: يا أبا صالح هذا الفتك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن الفتك، يا أبا صالح الإسلام قيد الفتك... (الكافي ج7، ص375).
وعن إسحاق الأنباري، قال: قال لي أبو جعفر الثاني عليه السلام: ما فعل أبو السمهري لعنه الله يكذب علينا، ويزعم أنه وابن أبي الزرقاء دعاة إلينا، أشهدكم أني أتبرأ إلى الله عز وجل منهما، إنهما فتّانان ملعونان، يا إسحاق أرحني منهما يرح الله عز وجل بعيشك في الجنة، فقلت: جعلت فداك يحلّ لي قتلهما؟
فقال عليه السلام: إنهما فتّانان يفتنان الناس ويعملان في خيط رقبتي ورقبة موالي، فدماؤهما هدر للمسلمين، وإياك والفتك فإن الإسلام قيّد الفتك.(رجال الكشي، ص529).
فمن الخبرين الأخيرين يستفاد أنه حتى لو كان الشخص مباح الدم فلا يصحّ الفتك به، وكفى في ذلك دلالة على شدة مبغوضية هذا الفعل عند الشارع المقدس.
وحيث إن مسلم بن عقيل هو سفير سيد الشهداء عليه السلام في نهضته وممثله في الكوفة، فمن البعيد أن يجهل هذا الأمر. وكيف يجهله وقد صرّح بعد خروج ابن زياد عن علّة عدم قتله فقال: إن الإسلام قيد الفتك.
من جانب آخر: لو سلّمنا أن هناك مصلحة أهمّ من مبغوضية الفتك في قتل ابن زياد، لكن كراهة هاني بن عروة أو زوجته على اختلاف التواريخ بقتل ابن زياد في بيتهما عامل آخر حال دون إقدام مسلم على قتله.
أضف إلى ذلك أنّ مسلماً كان مبعوثاً عن سيد الشهداء عليه السلام في أخذ البيعة له من أهل الكوفة لا بالقتال أو الفتك، وما قاتل حينما اقتيد إلا دفاعاً عن نفسه وحفظاً لها.
وعلى فرض أنّ في قتل ابن زياد مصلحة فتعارضها مصلحة أهمّ وهي تلوّث النهضة الحسينية بالفتك، فلو كان مسلم يفتك به لتلوّثت النهضة الحسينية بوصمة الفتك ولضاعت نزاهتها ـ والعياذ بالله ـ خاصة مع ملاحظة شدة مبغوضية الفتك عند العرب الذين كانوا يضربون الأمثال بأهل الغدر ومن ذلك قولهم: أعرق العرب في الغدر آل الأشعث لشدّة غدرهم بالناس.
وبغضّ النظر عن ذلك كلّه، فليس من شيمة القادة النجباء وأهل الشرف أن يفتكوا بالآخرين خاصّة في قضايا كهذه، فمثل مسلم بن عقيل الذي هو من شخصيات آل عقيل ووجهاء آل أبي طالب لا يليق به أن يفتك بظالم مثل ابن زياد.
ثانياً: كما يبدو أن أصحاب هذه الشبهة غير مطّلعين على التواريخ جيداً، فلم يرد في التأريخ أن مسلماً رضي أن يفتك بابن زياد، بل الواقع أنه بينما كان شريك يدعوه للغدر به طرقت الباب فاختبأ مسلم ولم يتّفقا على شيء أصلاً، والأبيات التي كان شريك يردّدها كان ظنّاً منه أن مسلماً قبِل الفتك بابن زياد، ولم يعلم أن الفرصة لم تتح له كي يوضّح له مبغوضية الفتك في الإسلام، ولذا لما ذهب ابن زياد بيّن له مسلم عليه السلام علّة عدم فتكه بابن زياد.